أخبار عاجلة

القاهرة ــ “القدس العربي”


كتب ـ محمد عبد الرحيم

الكثير من الأعمال الأدبية تناولت وستتناول (القضية الفلسطينية) باعتبارها قضية العرب جميعاً. والكثير من الروايات أيضاً حاولت الرؤية من منظور مختلف ــ الأجيال اللاحقة ــ بحثاً عن الفرد ومنه الشعب، بعيداً عن الساسة وأصحاب اتخاذ القرار، لذا وجدنا قصص الحب التي لا تنتهي ما بين رجل عربي وفتاة يهودية، ومن الممكن أن ينقلب الوضع مع بعض الجرأة لتصبح الفتاة عربية والفتى يهودي، كمحاولة لإيجاد أرضية أخرى يمكن من خلالها مناقشة الصراع، والتي لن ترضي أحد بحال من الأحوال. من هذه الأعمال ــ ولو بشكل مختلف ــ رواية “ما باحت به سارة” للكاتب اللبناني الطبيب محمد طعّان، والصادرة بالفرنسية في طبعتها الأولى عام 1999، والصادرة مؤخراً في طبعتها العربية الخامسة، عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة.

من النكبة حتى كامب ديفيد
تبدأ الرواية من حرب 1948، وحتى توقيع اتفاقية السلام الشهيرة عام 1978. عام النكبة كما يسمونها هو عام ميلاد الشخصية الرئيسة في الرواية (طارق) وعام كامب ديفيد هو عام فشله في علاقته مع حبيبته (سارة) التي تحمل الرواية اسمها. سارة اليهودية، التي نشأت في الجزائر، وتعمل وتعيش بالمغرب، وتحمل هوية فرنسية تتيح لها التنقل كما تشاء، بينما طارق الطبيب، والذي من مواليد عكا، وقد نشأ في مخيم جنوبي لبنان، وهاجر إلى بلغاريا لدراسة الطب، وعاد ليعمل بالمغرب، ليصبح الشتات هو سمة الشخوص، هو الحالم بالعودة إلى فلسطين، وهي الحالمة بالعودة إلى أرض الميعاد، وتتزوج من يهودي متديّن كما أوصاها أباها. لكن الواقع والوقائع ينفيان ذلك تماماً، فالأم قبل موتها، كانت تهدد طارق الصغير بمصدر الرعب الأوحد .. “كانت أمه على كل حال، لكي تردعه عن ارتكاب الحماقات الصبيانية، تقول له: سأستدعي الغول، أو: سأرسلك عند اليهود، أعدائنا الألداء، لكي يعاقبوك”. لكن ها هي سارة في ما بعد تأمل في محاولة للتعايش وإيجاد أرض مشتركة .. “بين الفرات والنيل يوجد مكان للجميع، عرباً ويهوداً”.
مدمن عبد الناصر
السيد طارق شخصية غريبة، يدمن سماع خطب زعيمه الأوحد جمال عبد الناصر، وقد توارث سماعها عن أبيه الراحل، الحالم الدائم بالعودة إلى أرضه، والذي مات ودُفن بأرض غريبة تفصله عن بلدته بحوالي 13 كيلومتر، والذي كان يرى أن عبد الناصر هو الأمل الوحيد لهذه العودة. إلا أن طارق يتحدث في أحيان كثيرة في لغة وطريقة مباشرة كأسلوب الكتب المدرسية، من قبيل .. نحن أمة تشترك في اللغة والدين والتاريخ والمصير المشترك، وهذه بالطبع مقولات زائفة، اللهم إن لم تكن مُستمدة من أسر الذاكرة ليس أكثر ــ الكاتب من مواليد العام 1952 ــ وحتى وإن كانت فترة أحداث الرواية دارت تحت تأثير هذه الأفكار، إلا أن صياغتها بهذا الشكل المدرسي داخل متن روائي، أفقدها الكثير من التأثير نظراً لهذه المباشرة، والتي قد تثير السخرية في بعض الأحيان. يحلم الفتى العربي بتوحيد وطنه الكبير، حتى يستطيع الوصول إلى وطنه المفقود (فلسطين) فيعمل في المغرب، ويحاول البحث عن هذا الوطن ما بين مشرق ومغرب عربي، لكن هناك يجد المأساة نفسها، فقر وجهل ومرض، وأطفال يموتون ــ الطفل أحمد الذي مات جرّاء تأخر الدواء الذي يتم استيراده من الخارج ــ ورجال من جنسيات أخرى ــ فرنسية بالأساس ــ يرحبون بإسرائيل، ولا يتورعون في القتل الخطأ تحت تأثير الخمر، لكن السلطات تتغاضى عن ذلك، وتكتفي بدفع (الديّة) لأهل الضحية. مع ملاحظة أنه كلما ضاق الحال بالمناضل طارق، لا يجد السلوى إلا في خُطب الزعيم الراحل! فالرجل منفصل عن الواقع، وهي حالة فصام لم يزل يعاني منها الكثيرون حتى الآن. ونطالع شخصية مغتربة أخرى حتى تكتمل التركيبة، فنجد (جميل) المدرس المسيحي، الآتي من سوريا ليعمل بالمغرب ــ سنجد مقاطع وكأنها من كتاب تاريخ للمرحلة الإعدادية عن الوحدة وفشلها بين مصر وسوريا ــ هنا نجد أصحاب الأديان الثلاثة في حالة الاغتراب هذه، وما فيش حد أحسن من حد.
الأمير الخليجي والبطل الزائف
عبر 178 صفحة وخلال 11 فصل، يتم سرد المناقشات والمحاورات ووجهات النظر، والتي أغلبها يُذكّر بندوات الاتحاد الاشتراكي، أو حلقات اليسار النقاشية. بخلاف بعض اللحظات الروائية .. كمعالجة الطفل أحمد، أو تعليمه الحروف العربية والكتابة ــ فالطفل أمازيغي الأصل ــ مع ملاحظة أن أول ما كتبه الطفل، أو ما كتبه له طارق ليقلده هو .. ــ أكيد عارفين ــ جمال عبد الناصر. بالمناسبة كان الطبيب يعلق في مسكنة صورة كبيرة للزعيم، بحيث يصحو وينام على وجهه، الذي قد يبتسم أحياناً، أو تغادره الابتسامة وقت الضيق. إلا أن الفصل العاشر في الرواية هو أفضل الفصول درامية، ففيه نتعرّف كيف تدار الأمور .. فالمكان لا ينقلب رأساً على عقب، بخلاف الموات الذي يحياه، إلا عند قدوم الأمير الخليجي أو مغادرته، فالرجل من هواة صيد الصقور، والمكان ملائم تماماً لهواية سموّه، وقتها لا مدارس ولا مصالح تعمل، يخرج الجميع لاستقبال الأمير والهتاف له، حيث تهبط طائرته البوينغ في مطار مهجور لا يستقبل إلا سواه كل عام، هذا المطار الذي شيدته قاعدة فرنسية وقت الاستعمار. يعلم طارق أن سيارات الإسعاف والشرطة وكبار الموظفين ــ السيارة التي يستقلها هو نفسه ــ من هدايا الأمير ولي النعم. لكن هذه السيارات القديمة، لا يستطيع الأمير العودة بها مرّة أخرى، فأعتقها لحاكم المدينة كهدية في ظاهرها، وما من الحاكم إلا التكفل بحاشية الأمير وحراسته وحفلاته، كل ذلك من ميزانية المدينة، التي من المفترض أن تكون للصحة والتعليم.
الأمر الآخر يتمثل في اكتشاف شخصية (النقيب ميلود) الذي كان يُبجله طارق والمدينة كلها لأنه شارك في حرب 1973، وعاد بوسام النضال، المتمثل في رصاصة أصابته، عانى بعدها من عَرَج سيلازمة طيلة حياته، ليكشف النقيب المناضل يوم عُرسه، وقد سقط أثناء الرقص قائلاً ..”أي بطل؟ وأي أمة عربية؟ انس شعاراتك كلها! سأخبرك كيف جُرحت، أنا أطلقت النار على فخذي. نعم، جرحت نفسي كي لا أذهب إلى الجبهة فأموت في حرب لم تكن تعنيني في شيء، من أجل قضية ليست قضيتي … لست أنا حتى مَن أطلق النار. لم تكن لدي الشجاعة. لقد أمرت أحد رجالي لكي يقوم بذلك. هذا هو تاريخ بطلك”. ونرجو أن تكون تذكِرة لاكتشاف تاريخنا مرّة أخرى.

تعليقات فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *